الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثاني: الاختصاص الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه.الثالث: تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به {على} بأنفسهم فكأنه قيل: ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلًا خائفًا عالمًا بسخط سيده عليه ناظرًا لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب.الرابع: النهي عن القنوط مطلقًا عن الرحمة فضلًا عن المغفرة وإطلاقها.الخامس: إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره.السادس: التعليل بقوله تعالى: {إِنَّ الله} الخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعادًا من تركه مع التوبة.السابع: وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها.الثامن: تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه.التاسع: التأكيد بالجميع.العاشر: التعليل بأنه هو. إلخ.الحادي عشر: التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة.الثاني عشر: حذف معمول {الغفور} فإن حذف المعمول يفيد العموم.الثالث عشر: إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة.الرابع عشر: المبالغة في ذلك الحصر.الخامس عشر: الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما إذا لم يتب.السادس عشر: التعبير بصيغة المبالغة فيها.السابع عشر: إطلاقها، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا: إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ، وكون القرآن في حكم كلام واحد.وأيدوا ذلك بقوله تعالى: {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} فإنه عطف على {لا تقنطوا} [الزمر: 53] والتعليل معترض، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفًا لتتميم الإيضاح كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عز وجل.وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلًا عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذٍ لا يكون المعطوف شرطًا للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته، وقيل إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يخل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب.وقال بعض أجلة المدققين: إن قوله تعالى: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ} [الزمر: 53] خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلهًا آخر وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى: {قُلْ يا أهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53]. إلخ.وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفًا ولا عدلًا أبدًا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتبًا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآيات الثلاث {قُلْ يا عِبَادِى إلى وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53- 55] بالمدينة في وحشي وأصحابه وتخلل قوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] بين المعطوفين تعليلًا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لاسيما وقد عقب بقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ} الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلي باللام، وقد أكد بما صار نصًا في الاستغراق، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى، وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفًا، والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في {فِى عِبَادِى} للعاصين والكافرين، وأمر الإضافة سهل، وإن قوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد.نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان فالمشرك داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه.ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: إلا ومن أشرك ثلاث مرات» لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول: السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحًا.وقيل: الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه وسلم.وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم} فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: {مَن يَعْمَلُ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه: ما في القرآن أوسع آية من {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 35] الآية.والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلًا، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان انقض من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها، وقيل: تجامعه مطلقًا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضًا فهو نوع من عفوه عز وجل وفيه ما فيه فتأمل، وأصل الإنابة الرجوع.ومعنى {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ} [الزمر: 45] الخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها، وقيل: بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة، وقال القشيري: الإنابة الرجوع بالكلية، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز وجل، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله.وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه».{واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان؛ وقيل: لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضًا، وجوز أن يكون الخطاب للجنس، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً} أي فجأة {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} لا تعلمون أصلًا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه. اهـ.
.قال عبد الكريم الخطيب: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} في وسط هذا الظلام المتراكم من الكفر، ومن خلال هذا الدخان المتصاعد من معاقل الضلال، ومواقع الشرك- تشرق الأرض بنور ربها، وفى سنا هذا النور القدسي يؤذّن مؤذّن الحق، بين ظلام هذا الكفر المتراكم، ودخان هذا الضلال المتصاعد، داعيا هؤلاء الغرقى في بحار الكفر والضلال: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأى العين، مراكب النجاة تخفّ إليهم من كل جهة، وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها، ويشدوا أيديهم عليها، لتحملهم إلى شاطىء النجاة والسلامة.ولكن ما أكثر الذين يرون الخير ولا يتجهون إليه، ويشهدون النور ولا يفتحون أعينهم عليه.. وفى ابن نوح مثل يشهد لهذا، فقد كان يرى بعينيه الطوفان يهجم عليه، ويكاد يبتلعه فيمن ابتلع من الضالين والغاوين، وأبوه يناديه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.. فيأبى إلا أن يركب رأسه، ويلقى بيده إلى التهلكة! وهؤلاء هم أبناء نوح، يناديهم ربّ العزّة هذا النداء الرحيم: {يا عبادى}.ويضيفهم سبحانه وتعالى إليه إضافة رحمة ورعاية، وإحسان، تعلو على إضافة الأبناء إلى الآباء، حنانا ورحمة وإحسانا.وهؤلاء الذين ينادون من ربهم هذا النداء الرحيم الكريم، ويضافون إلى عزته وجلاله إضافة الرحمة والإكرام- هم العصاة، الخارجون على حدود اللّه، المعتدون على حرماته، الجاحدون لنعمه.التفسير القرآني للقرآن، ج 12، ص: 118.إنهم الذين أسرفوا على أنفسهم، وجاروا عليها بهذه الأوزار التي حمّلوها إياها.. فيالطف اللّه، ويا لسعة كرمه.. وعظيم مننه، وجليل إحسانه!! وقوله تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} هو اليد البرة الرحيمة الحانية التي يربت اللّه بها على هؤلاء المذنبين العصاة، بمجرد أن يلتفتوا إلى هذا النداء الرحيم اللطيف: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} إنها قريبة منكم، دانية لأيديكم.. فهيا أقبلوا عليها، واستظلوا بظلها، واقطفوا ما تشاءون من ثمرها.وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}. شحنة من النور تضىء ظلام هذه النفوس التي تنظر إلى اللّه سبحانه وتعالى من خلال هذا الضباب المنعقد من اليأس حولها، وهى تذكر بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب- جهلا وضلالا- أن ذنوبها أكثر من أن تغفر، وأن جرائمها أكبر من أن يتجاوز لها عنها.. وكلّا.. فإن ذلك ظن سيىء باللّه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} مهما تكن بشاعتها وشناعتها.{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فما أعظم مغفرته، وما أوسع رحمته.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (156: الأعراف)!! فأى عذر لمذنب بعد هذا البلاغ المبين، إذا هو لم يسع إلى اللّه، ويغتسل في بحر رحمته، من أدرانه، ويتطهر من ذنوبه؟وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم، إذا هو لم يمدّ يده إلى ربّه، ليقيل عثرته، ويحمل عنه وزره؟{يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إنها ضيافة كريمة في ساحة رب كريم.وإنها نزل مهيأة، بكل أسباب الهناءة والرضوان، يستقبل فيها على طريق الحياة، أولئك الذين أضناهم السفر الطويل، وأكلت وجوههم لوافح الهجير.فيجدون حيث ينزلون ظلا ظليلا، وطعاما هنيئا، وشرابا باردا.فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه: ألا ما أعظم غباءك، وما أشأم حظك، وما أولاك بالذئاب تفترسك، وبالحيات تنهشك، فلا يرحمك راحم، ولا يبكيك باك.. من قريب أو صديق! قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}.إنه دعوة إلى رحاب اللّه، بعد أن فتحت الأبواب، ومدت موائد رحمته.فلم يتبق إلا أن يمد المدعوون أيديهم إلى هذه الموائد، وأن ينالوا منها ما يشتهون.ومن عظيم لطف للّه بعباده، وسابغ برّه بهم، وسعة رحمته لهم، أن لقيهم، وهم على طريق الضلال، وبين مراعى الإثم والمعصية، وأراهم منه- سبحانه- ما بين يديه من رحمة ومغفرة، وأنهم مع ما هم فيه من محاربة له، وعصيان لأمره، واعتداء على حرماته- لا يزالون من عباده، الذين لا تغلق دونهم أبوابه، ولا تحجب عنهم رحمته- ذلك كله قبل أن يطلب- سبحانه وتعالى- إليهم أن يرجعوا إليه، وأن يلقوا الأسلحة التي يحاربونها بها.. إنهم على ما هم عليه عباده، وأبوابه لن تغلق دونهم، ورحمته لن تحجب عنهم، ماداموا في هذه الدنيا.
|